فصل: المسألة الأولى: قَوْلُهُ: {حَرِّضْ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

.المسألة الأولى: قَوْلُهُ: {حَرِّضْ}:

أَيْ أَكِّدْ الدُّعَاءَ، وَوَاظِبْ عَلَيْهِ، يُقَالُ: حَارَضَ عَلَى الْأَمْرِ، وَوَاظَبَ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَاصَبَ بِالصَّادِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَاكَبَ بِالْكَافِ: إذَا أَكَّدَ فِيهِ وَلَازَمَهُ.

.المسألة الثانية: الْقِتَالُ:

هُوَ الصَّدُّ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ.

.المسألة الثالثة: قَوْلُهُ: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}:

قَالَ قَوْمٌ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَنَيِّفًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَنَيِّفًا؛ فَكَانَ لِلْوَاحِدِ ثَلَاثَةٌ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ، وَهِيَ الْوَاحِدُ بِالْعَشَرَةِ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَافُّوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا قَطُّ وَلَكِنَّ الْبَارِيَ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ.
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إلَى جَنْبِهَا.

.المسألة الرابعة: قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}:

أَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ حَطُّ الثِّقَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْآنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا لَيْسَ لِعِلْمِهِ أَوَّلُ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ، إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ بِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ.
وَقَدْ ضَرَبْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا يَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ النَّاظِرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَعْلَمُ الْيَوْمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا، ثُمَّ يَرَاهَا طَالِعَةً، ثُمَّ يَرَاهَا غَارِبَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمٌ مُجَدَّدٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا بَقَاءَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَعِلْمُ الْبَارِي وَاجِبُ الْأَوَّلِيَّةِ، وَاجِبُ الْبَقَاءِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ؛ فَانْتَظَمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَتَمَكَّنَتْ بِهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرِفَةُ.

.المسألة الخامسة: [وجوب ثبات الرجل لرجلين]:

فَلَمَّا خَفَّفَ عَنَّا أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ الثَّبَاتَ لِرَجُلَيْنِ، وَهَكَذَا مَا تَزَايَدَتْ النِّسْبَةُ الْوَاحِدَةُ بِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمَا، وَيَتَقَدَّمَانِ إلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَهْجُمُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَطْعَنُهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ بَقِيَ وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ اقْتَتَلَا فَقَدْ حَصَلَ دَمُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، وَبَقِيَ الزَّائِدُ لَغْوًا، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصَّبْرِ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَلْقَى عَشَرَةً قَالَ: وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مُعَسْكَرِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُمْ، وَهِيَ:

.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: [في اقتحام الواحد على العشرة والقليل على الكثير]:

وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَا يَقْتَحِمُ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَا الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْقَاءَ الْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ بِاثْنَيْنِ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ}.
يعني هوَّن الله عليكم القتال الذي افترضه عليكم يوم بدر.
{وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}؛ يعني عجزًا عن القتال.
{فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ}، يعني محتسبة صادقة، {يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} من المشركين.
{وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} من المشركين {بِإِذُنِ الله}، يعني بأمر الله تعالى وبنصرته.
{والله مَعَ الصابرين} بالنصر لهم على عدوهم.
وقال مقاتل لم يكن فريضة، ولكن كان تحريضًا، فلم يطق المؤمنين، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر فنزل: {الئن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} وروى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض على المسلمين أن لا يفر رجل من عشرة، ولا عشرة من مائة، فجهد الناس وشقّ عليهم، فنزلت هذه الآية الأُخْرَى: {الئن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين، ولا قوم من مثلهم؛ فنقص من النصرة بقدر ما نقص من العدد.
وروى عطاء، عن ابن عباس قال: من فرّ من رجلين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة لم يفر.
قال الفقيه: إذا لم يكن معه سلاح ومع الآخر سلاح، جاز له أن يفر، لأنه ليس بمقاتل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي حُثّهم وحُضّهم.
يقال: حارض على الأمر وواظب وواصب وأكبّ بمعنى واحد.
والحارض: الذي قد قارب الهلاك؛ ومنه قوله عزّ وجلّ: {حتى تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف: 85] أي تذوب غمًّا، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} لفظُ خبر، ضِمْنُه وعْدٌ بشرط؛ لأن معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين.
وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد.
ويجري هذا الاسم مجرى فِلسطين.
فإن قال قائل: لم كُسر أوّل عشرين وفُتح أوّل ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلاَّ سِتّين؟ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد؛ فكسِر أوّل عشرين كما كسر اثنان.
والدليل على هذا قولهم: ستون وتسعون؛ كما قيل: ستة وتسعة.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فشقّ ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفِرّ واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} قرأ أبو تَوبة إلى قوله: {مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}.
قال: فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم.
وقال ابن العربيّ: قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونُسخ.
وهذا خطأ من قائله.
ولم يُنقل قطُّ أن المشركين صافوا المسلمين عليها، ولكن الباري جلّ وعزّ فرض ذلك عليهم أوّلًا، وعلق ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب.
وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه.
قلت: وحديث ابن عباس يدلّ على أن ذلك فرض.
ثم لما شقّ ذلك عليهم حطّ الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين؛ فخفّف عنهم وكتب عليهم ألاّ يفرّ مائة من مائتين؛ فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ.
وهذا حسن.
وقد ذكر القاضي ابن الطيّب أن الحكم إذا نُسخ بعضُه أو بعضُ أوصافه، أو غُيّر عدده فجائز أن يُقال إنه نسخ؛ لأنه حينئذ ليس بالأول، بل هو غيره.
وذكر في ذلك خلافًا. اهـ.

.قال الخازن:

{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله}
(خ) عن ابن عباس: قال لما نزلت {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مائتين ثم نزلت {الآن خفف الله عنكم} الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين.
وفي رواية أخرى عنه قال: لما نزلت {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين} شق ذلك على المسلمين فنزلت {الآن خفف الله عنكم} الآية فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم عن الصبر بقدر ما خفف عنهم فظاهر هذا أن قوله سبحانه وتعالى: {الآن خفف الله عنكم} ناسخ لما تقدم من الآية الأولى وكان هذا الأمر يوم بدر فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقل ذلك على المؤمنين فنزلت {الآن خفف الله عنكم} أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفًا يعني في قتال الواحد للعشرة فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فرد من الشعرة إلى الأثنين فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فرّ {والله مع الصابرين} يعني بالنصر والمعونة.
قال سفيان: قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمنًا ألا يجابَ مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نقل عن ابن جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ في ثلاثين راكبًا فلقي أبو جهل في ثلمثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل: قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل: ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل، وقرئ ضُعفًا بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل: الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل، وبالضم ما في البدن وقرئ ضُعفاءَ جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقًا كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل، وقوله تعالى: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} تفسيرٌ للتخفيف وبيانٌ لكيفيته وقرئ (تكن) هاهنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية {وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبرٌ هاهنا وإنما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} فإنه اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه، ولم يُتعرَّض هاهنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاءً بما ذُكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مرارًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] إلخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف وهل يعد ذلك نسخًا أم لا؟ قولان اختار مكي الثاني منهما وقال: إن الآية مخففة؛ ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر، وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا: إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا فعلى الأول لا يأثم وعلى الثاني يأثم، والضعف الطارئ بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم قوم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك، وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سببًا للضعف أن بها يضعف الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الاعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر، ومن هنا قال النصراباذي: إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أحول، وتقييد التخفيف بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فباعتبار تعلقه، وقد قالوا: إن له تعلقًا بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي: المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم.